الخميس، 17 نوفمبر 2011

الديمقراطية أساس لقيام الدستور - د. عزيز جبر شيال

الديمقراطية أساس لقيام الدستور -  د.عزيز جبر شيال

الديمقراطية مصطلح شائع الاستعمال منذ عصور موغلة في القدم، وبقدر تعلق الأمر ببحثنا سنحاول تجنب الغوص في تفاصيل هذا المصطلح وتأصيله، بيد انه لابد من التأكيد على حقيقة مهمة وهي عدم وجود تعريف مانع جامع لها وذلك لكون هذا المصطلح يأخذ تحديده من خلال المضمون العقائدي لزمان ومكان استخدامه إضافة إلى شكله التطبيقي، إذ لو كان للمصطلح مضمون عقائدي وشكل تطبيقي واحد لما انتشر الحكم الديمقراطي وتكيف مع مختلف الثقافات دون ان يصطدم مع جوهر عقائد المجتمعات وقيمها المختلفة.

ان الديمقراطية المعاصرة تغلب عليها صفة المنهج فهي في المقام الأول نظام حكم ومنهج سلمي لإدارة اوجه الاختلاف في الرأي والتعارض في المصالح، ويتم ذلك من خلال إقرار وحماية وضمان ممارسة حق المشاركة السياسية الفعالة في عملية اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة للجماعة السياسية بما في ذلك تداول السلطة عن طريق الانتخاب وفق شرعية دستور ديمقراطي(1).

ان عدم وجود تعريف جامع مانع للديمقراطية صالح لكل زمان ومكان لا ينفي ان الديمقراطية لها قوانين (قيم تتجلى في مبادئ ومؤسسات وآليات وضمانات الدستور الديمقراطي كما ان للديمقراطية قيم لابد من مراعاتها وهي الحرية والمساواة والعدل والتسامح)(2)، وان هذا الفهم يقودنا إلى ان البحث في موضوع الديمقراطية لا نريد منه ان يكون بحثا نظريا خالصا يستهدف الكشف عن ماهية الديمقراطية وخصائصها وطبيعتها وانما هو بحث نظري تقوده خلفية عملية تنطلق من مسلمة ان الديمقراطية مصطلح تجاوز الحدود الجغرافية الضيقة وبيئة النشأة وانفتح على الفضاء العالمي الرحب متجاوزا التربة التي أنبتته لينساب في أطراف الأرض مشرقا ومغربا وهو ما يتيح الاستفادة منع في تنظيم حياتنا السياسية.

ان تجنبنا الخوض في النقاش النظري الخالص حول الديمقراطية ينبع من القناعة الراسخة باننا أمام مشكلة عملية بالأساس واننا نحتاج إلى تفكير عملي يدرك أهمية البحث في الأسس دون ان يغرق فيها، ولا يختصر الظواهر في أبعادها النظرية بغض النظر عن خلاصاتها الواقعية ويركز اهتمامه على فهم الواقع وتغييره بالقدر الذي يمكنه من دون مغالاة أو تعسف.

ان نظرتنا إلى الديمقراطية باعتبارها منهج أو أداة قابلة لان تكون أداة مجردة من حمولتها الثقافية والعقائدية المباشرة التي ارتبطت بها في التجربة التاريخية الغربية وقابلة لان تصبغ بصبغات ثقافية وحضارية عديدة، ومن هنا يصبح للحديث عن عالمية مفهوم الديمقراطية معنى جديدا يضيف له أبعادا أخرى تغنيه بتجارب جديدة تجري على قاعدة مرجعيات أخرى غير المرجعية الغربية إذ ان النظر إلى الديمقراطية باعتبارها منهجا أو آلة أو قالبا فارغا يتقبل مضامين مختلفة باختلاف حضارات العالم وثقافاته سيجنبنا الكثير من الصراعات الهامشية في عملية تبني الديمقراطية في بيئتنا العراقية ذات المرجعية الإسلامية.

وتقوم الديمقراطية من حيث المبدأ العام على خمسة أركان أساسية وهي:-

1. ممارسة السلطة العامة من قبل ممثلين منتخبين في انتخابات حرة وعامة أي الاعتراف بالسيادة الشعبية.

2. تكريس دولة القانون التي تتضمن احترام القانون وتطبيقه بالتساوي على جميع أفراد المجتمع صغيرهم وكبيرهم غنيهم وفقيرهم.

3. تامين العدالة الاجتماعية من خلال نظام للتكافل والتصحيح يضمن عدم تعسف الأغلبية الاجتماعية ثقافيا وسياسيا.

4. ضمان الحريات الفكرية والسياسية والتنظيمية.

5. إدارة مسؤولة وذات كفاءة.

ان الأركان المذكورة آنفاً تمثل الديمقراطية باعتبارها وعاءاً يمكن ان تملأه الشعوب بما تراه مناسبا لقيمها الثقافية والاجتماعية وهنا لابد لنا من ذكر المقومات الاجتماعية أو المرتكزات التي يستند إليها نظام الحكم الديمقراطي سواء كان في شرق العالم أو غربه شماله أو جنوبه وهذه المرتكزات هي:(3)

1. اعتبار المواطنة مصدر الحقوق ومناط الواجبات.

2. الإقرار بان الشعب مصدر السلطات.

3. الاحتكام إلى شرعية دستور ديمقراطي.

4. قيام مجتمع مدني ونمو رأي عام مستنير.

5. تحول الديمقراطية إلى قيمة اجتماعية ومعيار أخلاقي.

وبما ان مجتمعنا يفتقر إلى التجربة الديمقراطية نرى ان علينا ان نوضح هذه المرتكزات إذ ان كثير من المواطنين يردد مفهوم الديمقراطية بطريقة أو بأخرى تبعا للثقافة الفرعية التي ينطلق منها في تحديد موقفه من المجتمع والحريات وفقا لمعطياتها حيث لم تصبح الديمقراطية قيمة اجتماعية عامة تحدد على ضوئها مواقف المجتمع العراقي بتكويناته المختلفة، فالديمقراطية مثلها مثل أي فكرة وممارسة نبتة تاريخية نشأت ربما في حضن مدنية معينة في المرحلة الأولى، لكن شيئا لا يربطها ربطا حتميا ولا نهائيا بهذه المدنية وانما هي ثمرة حضارية تشارك فيها جميع المدنيات تماما كما ان الكمبيوتر نشأ في حضن المدنية الغربية لكن لا شيئا لا يمنع الصيني والعربي والأفريقي من إدراك القيمة العلمية والنجاعة العملية لهذا الاكتشاف ويقبل عليه ويطمح إلى السيطرة على تقنيته ويكون من اكثر الناجحين في العمل عليه، وطالما ليس هناك وجود لديمقراطية جاهزة ولا ناجزة ولا نموذجية في أي مكان فأي بناء لديمقراطية محلية هو تجربة تاريخية خاصة وإبداعية، مثل أي تجربة إبداعية يستدعي النجاح فيها تشغيل المخيلة وتجنب الحلول المعروفة واكتشاف الآليات الناجعة في الظرف المعين تبدوٍصعبة ومعقدة تحتمل التقدم والتراجع والفشل والنجاح، فإعادة توزيع السلطة في أي مجتمع من المجتمعات ليست قضية نظرية ولا إيمانية ولا ثقافية ولكنها تستدعي معركة حقيقية ذلك انها تمس مصالح فئات وطبقات حية وموجودة على الساحة وقادرة على الحركة والقتال للدفاع عن مكتسباتها وان تكريس الحريات السياسية ليست مسألة أخلاقية أو قيمية ولكنها مسألة مرتبطة مباشرة بالتوزيع المادي للموارد فمتى ما تمكن المواطنون من حرياتهم السياسية صار بإمكانهم الاعتراض على الاستخدام الاحتكاري لهذه الموارد من قبل نخبة دائمة وقائمة سواء أكانت أرستقراطية ملكية أو ثورية جمهورية(4).

ان تجربة العراق الديمقراطية تجربة مشوهة حيث لا يزال مجتمعنا يفتقر إلى نموذج من الحكم السياسي الحي القادر على بلورة حد أدنى من الإرادة الجمعية والتعبير عن المصالح المتعددة والمتباينة للمجتمع والعمل على تقنينها وتوفير الإطار المناسب للتوفيق فيما بينها وتجاوز تناقضاتها وحلها بطريقة سلمية ولم يكن من الممكن الحفاظ على الحكم المطلق من دون الدخول في حروب داخلية وخارجية مستمرة كان من نتيجتها التدمير السياسي والمعنوي والاقتصادي للمجتمع والبلاد معا.

وفيما يأتي توضيح للأركان التي يستند إليها نظام الحكم الديمقراطي:

1. اعتبار المواطنة مصدر الحقوق ومناط الواجبات: ويقصد بها ان يكون ولاء الفرد للوطن هو المصدر الأساسي لتمتعه بحقوقه إذ ان أية قيمة أخرى لا يمكن ان تمثل البديل لضمان العيش الكريم الآمن والمطمئن .. ان ديمومة الرابطة الوطنية تعبر عن نفسها بكونها تمثل أزمة في المجتمع إذ يجب ان يتوصل الناس في الدولة الجديدة إلى إقرار ان اقليمهم الوطني هو وطنهم الحقيقي، كما يجب ان يشعروا كأفراد بان هويتهم هوية الدولة الوطنية وليست هوية الوحدات الاجتماعية الفرعية عرقية كانت أو دينية أو طائفية، وهو ما يتجسد من خلال سيادة الإحساس بالمواطنة والانتماء إلى هوية وطنية موحدة بين أبناء الوطن الواحد(5).

ومما تجدر الإشارة إليه هنا حالة الفساد السياسي التي سادت في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة ولحد اليوم اتسمت بسمات أدت إلى تعطيل نمو الرابطة الوطنية لا بل أسهمت في تفتيت تلك الرابطة، حيث لاحظنا فساد الصفوة السياسية وقيامها على أساس من اعتبارات الانتماء العرقي والديني والطائفي وليس على الإنجاز والكفاءة والتفوق، وفساد الأجهزة التنفيذية وعجزها عن أداء دورها ووظائفها المرسومة لها بما يحقق الأهداف الاجتماعية ويخدم مصلحة المجموع فقد زادت الممارسات غير القانونية الأخلاقية كالرشاوى وتقاضي العمولات واختلاس الأموال العامة والعمل على إصدار قوانين تخدم المصالح الخاصة مما أدى إلى تفتت داخلي لعموم البناء الاجتماعي وزيادة حدة مشكلة عدم الاندماج اجتماعيا وسياسياً وقوميا بكل ما يترتب على ذلك من تصاعد في حدة الصراعات الداخلية التي كادت ان تصل وبسهولة كبيرة إلى حرب أهلية حيث أدى القمع المتواصل للحركة الوطنية الكردية إلى ظهور نزعات انفصالية كان بالإمكان ان تتحقق لولا الوعي الوطني لقيادة الحركة الوطنية الكردية وجماهيرها ومتغيرات الوضع الإقليمي والدولي، كما ان التعامل غير المنصف والإجرامي مع بعض المذاهب والأديان وعلى الأخص المذهب الشيعي أدى إلى إضعاف الرابطة الوطنية ولولا الوعي الوطني للقيادات الشيعية لحلت بالوطن كارثة، وقد أثبتت الأحداث التي تلت احتلال العراق عمق الوعي الذي تتمتع به القيادات الوطنية بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها في سعيها لتأكيد الرابطة الوطنية ووحدة العراق أرضا وشعبا ونقد المرحلة السابقة ونبذ سلبياتها. ولغرض ديمومة هذا الزخم ينبغي السعي إلى المزيد من المشاركة في عملية رسم السياسات وصنع القرارات وباقي الفعاليات السياسية من خلال تكييف القوانين والإجراءات لاستيعاب هذا المطلب ناهيك عن معالجة الاختلال الحاصل في نسب وأساليب توزيع الموارد والثروات والخدمات على وحدات المجتمع وأفراده، وتقليد أساليب الأنظمة السابقة في حرمان الناس من مصادر الرزق تحت مبررات واهية أو بحجة الانتقام بسبب موقف سياسي أو انتماء عقائدي أو عرقي أو حزبي. ان هذا لن يتحقق إلا من خلال ترشيد السلطة السياسية وعقلنتها وتحقيق مبدأ سيادة القوانين وإقامة دولة المؤسسات وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية للمواطنين والسعي لمصالحة وطنية تنبذ الأساليب المتخلفة في التعامل مع الآراء المناهضة بحيث تؤدي إلى ان يقوم الفرد بالبحث عن ولاءات تضمن له تحقيق ذاته وتسهل له تحصيل رزقه وتحفظ كرامته.

2. الإقرار بان الشعب مصدر السلطات: ان الإقرار بهذا المبدأ ليس بالأمر الجديد في الفكر السياسي والاجتماعي والقانوني إذ عولج هذا الموضوع من قبل العديد من المفكرين والفلاسفة ويقوم هذا المبدأ على إقرار المساواة القانونية فيما بين أفراد المجتمع وعليه فان المساواة بين الأفراد تدحض أي مبرر لسيطرة فرد على فرد آخر لان السلطة في المجتمع لا تعود إلى فرد وانما تعود إلى الجميع. وفي الحقيقة من اللحظة التي أصبحت فيها السلطة دنيوية بدا اصلها الشعبي اكثر انسجاما مع العقلية العامة، وتبعا لذلك اكثر فعالية وكان الأمر يقتضي آنئذ في الواقع إيجاد أساس يبرر طاعة الأفراد للسلطة من ناحية ومن ناحية أخرى إقامة حواجز تمنع ان تكون السلطة مطلقة استبدادية وكان الكابح الوحيد في الواقع الذي يحول دون انزلاق السلطة على طريق الاستبداد خارج نطاق إقامة المؤسسات السياسية هو هذا الاعتقاد الشائع في المجتمع لدى الحكام والمحكومين بان السلطة يجب ان لا تمارس إلا لمصلحة المجتمع - وإذا كانت السلطة تأتي من الشعب فمن المنطقي إذن ان تمارس المصلحة الهيئة الاجتماعية أي سلطة الشعب ذاته - والحكام وان مارسوا السلطة فانهم ليسوا سوى وكلاء عن الشعب فحسب ويستطيع ان يحاسبهم على كيفية قيامهم بوظائفهم إذا اقتضى الأمر(6).

ان اعتبار الشعب مصدر السلطات تعني بالإضافة إلى ما ذكرناه تحقيق مساهمة واسعة للشعب بابنائه ومؤسساته المدنية وقواه السياسيةفي رسم السياسة العامة ووضع القرارات واتخاذها وتنفيذها وإعادة هيكلة وتنظيم بنية النظام السياسي وعلاقاته مما يتلاءم وصيغة المشاركة الأوسع للشعب في العملية السياسية وفعالياتها. وان هذه المشاركة هي التي تحدد شرعية السلطة السياسية فشرعية النظام انما تتحقق بقبول الشعب بحق الحاكم في حق استخدام القوة لتطبيق القانون والنظام المتفق عليه اجتماعيا وسياسيا، ولن تكون هذه الشرعية قائمة ومتحققة ما لم يكن للشعب دور في اختيار الحاكم بما يؤكد رضاهم عنه وقبولهم به(7).

3. الاحتكام إلى شرعية دستور ديمقراطي: لم يعد ثمة شك في ان الديمقراطية المعاصرة ممارسة مقيدة بدستور ديمقراطي يختلف من حيث طريقة وضعه وإقراره وإجراءات تدعيمه حيث يجب ان يتم وضع ومناقشة وإقرار الدستور الديمقراطي من قبل جمعية وطنية تاسيسية منتخبة انتخابا عاما حرا ونزيها وهذه نقطة البداية في عملية التحول الديمقراطي التي يجب ان تليها حصانة للشرعية تتمثل في حكم القانون واستقلال القضاء ونزاهته ممثلا في المحكمة الدستورية هذا إضافة إلى قدرة المجتمع المدني والرأي العام على إيقاف أي تعد للسلطة التنفيذية على الشرعية الدستورية(8).

ان جوهر السلطة ليس في وجود الدستور لأنه باستطاعة الأفراد كتابة أي نص دستوري على الورق فإذا لم يتلاءم والظروف الاجتماعية السياسية يصبح مجرد كلمات جوفاء لا حياة فيها(9) لهذا فان اعتماد صيغة الجمعية التاسيسية يتفق ومبدأ الشعبية فالشعب هو صاحب السلطة التاسيسية والدستور هو التعبير عن هذه السيادة، وان وسيلة الجمعية التاسيسية هي اكثر الوسائل ديمقراطية لاقرار الدستور حيث تمثل الهيئة المنتخبة لمختلف أوساط الرأي العام وتمكنهم من مناقشة الدستور بصورة واسعة، وان الجمعية التاسيسية التي تنتخب على أسس ديمقراطية يمكن ان تصبح هيئة لدمقرطة البلاد(10)، ان قيام الجمعية التاسيسية بوضع الدستور ومن ثم عرضه للاستفتاء العام يعتبر من افضل الممارسات الديمقراطية لإعداد الدساتير لكونه يتجاوز اغلب الملاحظات السلبية التي ترد على هذه الطريقة في إعداد الدستور، كما ينبغي التنويه بان الدستور مهما بلغ من الرقي والتقدم في مواده إلا انه يبقى حبرا على ورق كما أشرنا ما لم يتم الاتفاق على آلية رقابة صارمة ومتعددة الأوجه لكي نضمن دستورية القوانين ونمنع التعسف في إصدار قوانين تهيئ الأجواء لسيطرة فئة أو طبقة أو جماعة معينة(11).تلغي الاخروتمنع مشاركته وتوقف الاحتكام الى الشعب عبر الانتخاب العام والتداول السلمي للسلطة على وفق الارادة الشعبية العامة .

كما يجب ان يؤسس الدستور على خمسة مبادئ ديمقراطية عامة مشتركة لا تقوم للدستور الديمقراطي قائمة إذا غاب أي منها(12).

"أ- لا سيادة لفرد ولا قلة على الشعب والشعب مصدر السلطات.

"ب- سيطرة أحكام القانون والمساواة امانة.

"ج- عدم الجمع بين أي من السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد شخص أو مؤسسة واحدة.

"د- ضمان الحقوق والحريات العامة دستوريا وقانونيا وقضائيا ومن خلال تنمية فاعلية المجتمع المدني وقدرته عن الدفاع عن ممارسة الحريات العمة.

"ه- تداول السلطة التنفيذية والتشريعية سلميا وفق آلية انتخابات دورية عامة حرة ونزيهة تحت إشراف قضائي كامل ومستقل وشفافية تحد من الفساد والإفساد والتضليل في العملية السياسية .

4. قيام مجتمع مدني ونمو رأي عام مستنير: ان هذا الركن من أهم الأركان في كونه يتعلق بموضوع على قدر عال من الأهمية يتعلق بتنشئة الأفراد وتربيتهم إذ ان تمسك كل مجتمع إنساني يتوقف على فهم أفراده لقيمه وقواعده المشتركة أي انه كل ما تنطوي عليه فكرة الثقافة في الواقع، وهذا الفهم المشترك لا يكتسبه الفرد عند ولادته ولكن يحصل عليه خلال مراحل حياته المختلفة وبما يؤهله للمساهمة كعضو فاعل في نشاطات الجماعات المتنوعة والمجتمع الشامل، ومع ان مرحلة الطفولة والصبا تعتبر حاسمة في تكوين شخصية الفرد ومضمونها عبر دخوله في الثقافة السائدة في وسطه العائلي الاجتماعي إلا ان عملية التنشئة الاجتماعية لا تتوقف عند هذه المرحلة وانما تستمر حتى في مراحل الرشد من حياة الإنسان فهي تجربة العمر كله(13).

وتعتبر التنشئة الاجتماعية السياسية أهم رابطة بين النظم الاجتماعية والنظام السياسي،وان تنظيم هذه الرابطة هي محور اهتمام الأحزاب السياسية وقادة الرأي العام في سعيهم إلى تحقيق تنمية سياسية من حيث هي فعالية تهدف الى زيادة جدوى النظام السياسي وفاعليته في مواجهة المشكلات التي تعترضه عبر إعادة جدولة القيم والافضليات وفقا للإطار الفكري للنظام القائم وتوسيع النشاط والتعاون عن طريق بلورة دور المواطنين في المشاركة بوضع جدولة تلك القيم والافضليات(14).

ان قيام مجتمع مدني ونمو رأي عام مستنير يتطلب بالإضافة إلى العوامل المعنوية المتمثلة بالنوايا الصادقة توفر شروط مادية أهمها:

"أ- وجود نظام سياسي مؤمن بالمشاركة الجماهيرية وبمبادئ الديمقراطية.

"ب- وجود دستور ضامن للمشاركة وحام لها.

"ج- وجود مؤسسات مؤهلة لتنظيم المشاركة الجماهيرية وتجسيدها بحيث تغدو هذه المؤسسات اقرب ما تكون إلى مدارس لتدريب الشعب على ممارسة الديمقراطية والحوار الهادئ وتقبل الرأي الآخر مهما كان مختلفاً.

"د- إطلاق الحريات وعدم اعتبارها منحة من الحكام الجدد وانما هي هدية انتزعها الشعب عبر معاناة طويلة جراء سيطرة أنظمة فاسدة.

"ه- الابتعاد عن النفاق الاجتماعي والسياسي ومحاربة ظاهرة التملق والتزلف والتمسك بالصيغ الموضوعية في اشغال المناصب الحكومية والوظائف العامة.

"و- تنمية وتشجيع روح التسامح ونبذ العنف وطي صفحة الماضي الكئيب وإشاعة روح التفاؤل والأمل.

5. تحول الديمقراطية إلى قيمة اجتماعية ومعيار أخلاقي: أن من أهم أسباب تأخر المطلب الديمقراطي في بلادنا هو غياب تيار ديمقراطي حقيقي يؤصل لقيم الاختلاف والتعدد بغض النظر عن المكاسب السياسية المباشرة، بل يوجد هو نوع من التحزيب للديمقراطية التي أصبحت مجرد لافتة سياسية فجة توظف في الصراع السياسي بين التيارات أو المعسكرات والتي يتمترس كل منها خلف مقولات الديمقراطية ويعمل على احتكارها لتكون رافدا لمعركته السياسية والحزبية، ومما لا ريب فيه ان تحزيب الديمقراطية سيكون ضار بمن يتبناه في المنظور الاستراتيجي برغم ما قد يحققه ذلك من مكاسب آنية لهذا الطرف أو ذاك، ويمثل غياب التيار الديمقراطي وسيطرة التعامل التحزيبي مع مسائل جوهرية وأساسية في بنية المجتمع ونظامه السياسي نتيجة ومؤشرا في الوقت نفسه لعدم حسم موضوع المشروعية العليا في المجتمع حيث ينتهي التدافع الفكري والسياسي الذي لا تحده حدود ولا تجمعه قواعد مشتركة إلى التنافي والتنابذ والعمل على توظيف كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة في الصراع السياسي بما في ذلك تضييق دائرة الديمقراطية وجعلها مقصورة على حزب معين دون غيره والتراشق بالاتهامات التي تبدأ بالتكفير وتنتهي بالتخلف وبما يفتح المجال لبروز وتبرير قيام نظم دكتاتورية.

ان مما لا شك فيه ان وضعنا الراهن أحوج ما يكون اليوم إلى قيام كتلة تاريخية قوية تلتقي فيها جميع التيارات الفكرية والسياسية على قاعدة محاصرة الاستبداد والدكتاتورية وتهيئة الوضع والثقافة العامة لتجربة ديمقراطية تبدأ بطريقة متدرجة وتراعي الرفق والمنهج السلمي في تغيير واقع تطبع بالقهر والاستبداد، ولابد من الإشارة هنا إلى ان من أهم المواضيع التي تؤدي إلى تحول الديمقراطية إلى قيمة اجتماعية ومعيار أخلاقي هو حسم موضوع المشروعية العليا للدولة والتي تنتظم تحت سقيفتها الخلافات الفكرية والسياسية في بلادنا فالصراع الدائر اليوم ليس صراعا بين برامج سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة تتنافس على إقناع بصلاحية هذا البرنامج وخطأ البرنامج المقابل وانما هو صراع بين مرجعيات مختلفة ومتضادة تقف في مقدمتها المرجعيات الإسلامية والتغريبية والتحول من أحدها إلى الأخرى هو بمثابة انقلاب عميق يطال اوجه الحياة المختلفة في حين انه ليس من الممكن بلوغ الديمقراطية من دون الوصول إلى استقرار المجتمع السياسي على جملة من القوانين العامة وتحويلها إلى مسلمات يقبل بها الجميع، وإذا ما علمنا ان التداول على الحكم في الأنظمة الديمقراطية المستقرة انما هو تداول بين الشبيه وشبيهه أو بين قوى متباينة ولكنها تسلم بالعمل تحت سقف مشروعية واحدة وتتنافس في تجسيد خيار مجتمعي متفق عليه أدركنا عمق هذا الركن من أركان الديمقراطية، ان صراعاتنا هي بين النقيض ونقيضه ولذلك يتشبث كل فريق لا بمحاورة الآخر والبحث عن مواطن الالتقاء معه وانما بالعمل على استبعاده وربما القضاء عليه واستئصاله من الوجود أصلا وفي هذا قد يصبح المطلب الديمقراطي مجرد خطاب يوظف في صراع سياسي بعيد كل البعد عن مفهوم الديمقراطية الحقيقية.

ان حسم موضوع المرجعية في تصورنا يجب ان يكون لصالح التسليم بالمرجعية الوطنية التوافقية وهو أمر من شأنه ان يوفر إجماعا شعبيا وسياسيا واسعا يضفي على الحياة السياسية زخما كبيرا يمكن توظيفه في بناء الديمقراطية، وبمنطق ديمقراطي يتعامل مع الواقع كما هو ولا يتعسف عليه في تغييره لابد من الإقرار بان مثل هذه المرجعية هي المرجعية الوحيدة التي يمكن ان تحوز اليوم على أغلبية واسعة وبلا نظير وهو ما يقتضي التسليم بهذه المرجعية والعمل من داخلها والاختلاف على قاعدتها، لم نجد مدعاة حقيقية للانزعاج من التسليم بهذه المرجعية هي التي تمكننا الاستفادة من توظيف ما تحوزه من إجماع ينسج في بناء الديمقراطية شريطة ان يكون المرور لها مشروطا بالمشروعية الشعبية واختيار الناس وان لا تؤدي الأمور إلى تنصيب دوله تصادر أفكار الناس وتنصب نفسها حكما فوق الجميع(15).

ان توسيع قاعدة أصحاب المصلحة في الديمقراطية يقتضي بالإضافة إلى نفي شبهة كون الديمقراطية عقيدة منافية أو منافسة للعقيدة الإسلامية أو غيرها من العقائد يأتي من خلال التأكيد المستمر على ان الديمقراطية وعاء أو منهج سلمي لإدارة اوجه الاختلاف في الآراء وتعارض المصالح كما يتطلب أيضا شراء رضا أصحاب الامتيازات والمكانات التقليدية بثمن مؤقت ومقبول إنسانيا عن طريق إلغاء تلك الامتيازات الأمر الذي يوجد مخرجا سلميا لأصحاب تلك الامتيازات.مثل شيوخ العشائر والشخصيات العامةالتي قد تغري الرغبة في استمرارهــا بعض

الجماعات بمعاداة الديمقراطية والوقوف في وجه المطالبين بها، ان أوضاعنا الحالية تغرق في حالة من القطيعة المتسعة والانفصال المتزايد بين حركة الجماهير وحركة النخبة الأمر الذي حرم حركة الجماهير من خبرة النخب وتخصصات واتساع دوائر معارفها وحرم النخب من حركة الجماهير وتأييدها ودعمها ويمكن ملامسة هذا الأمر بشكل مباشر بمجرد تفحص الحياة السياسية التي تنقسم بين تيارات جماهيرية كبيرة تقودها كفاءات متواضعة في مقابل كفاءات كبيرة بلا قواعد وبلا جماهير وهو ما يمكن التمثيل عليه بالقول ان أحزابنا السياسية اما أحزاب جنرالات بدون عسكر أو أحزاب عسكر بدون جنرالات وفي ظل هذا الوضع يعجز المطلب الديمقراطي عن العثور على قاعدة عريضة أو رابطة يمكن ان تترجمه إلى حقيقة ملموسة وبحسم موضوع المرجعية وبالتدرجية يمكن ان نجد علاجا لهذا الانفصال المرضي بين النخب والجماهير أو بين العقل والوجدان بحيث يصبح المطلب الديمقراطي قيمة اجتماعية ومعيار أخلاقي تقاس عليه وبه درجة المواطنة .

_______________________________________

(1) Robert A. Dahl, Democracy and its criteria's, New York Yale University Press, 1989, pp. 1-9.

(2) علي خليفة الكواري (نحو رؤية مستقبلية لتعزيز المساعي الديمقراطية في اقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية) مجلة المستقبل العربي العدد 267 - 11 مايو 2001 ص267 11 مايو 2001 ص9.

(3) خالد الحسن - إشكالية الديمقراطية والبديل الإسلامي في الوطن العربي. أوراق سياسية 14 - دار الجيل - عمان 1988 ص 149 - 150.

وللمزيد من التفصيلات بصدد تعريف الديمقراطية انظر: د.عبد الجبار احمد عبد الله (الديمقراطية الأمن القومي العربي) مجلة العلوم السياسية - كلية العلوم السياسية جامعة بغداد - العدد 27 السنة الرابعة عشر كانون الثاني 2003 ص56 - 58.

(4) د.برهان الدين غليون - معوقات الديمقراطية في الوطن العربي - بحث منشور على موقع الجزيرة في الانترنيت بتاريخ 7/9/2001 ص14-15.

(5) د.علي عباس مراد - التنمية السياسية وأزمة المشاركة، محاولة بين تحديد المفهوم - بحث في مشكلات وتجارب التنمية في العالم الثالث - جامعة بغداد، 1990 - ص123.

(6) للمزيد من التفصيلات انظر د.نوري لطيف - القانون الدستوري - دار الحرية للطباعة - بغداد - 1976 ص66-70 ود.صادق الأسود - علم الاجتماع السياسي - جامعة بغداد - 1986 ص299-300.

(7) قارن مع - د.صادق الأسود - المصدر السابق - ص287.

(8) علي خليفة الكواري - حوار من اجل الديمقراطية - دار الطليعة - بيروت 1996 ص140-160.

(9) د.نوري لطيف - المصدر السابق ص193.

(10) نفس المصدر ص200-201.

(11) بخصوص الرقابة على القوانين انظر د.نوري لطيف - العدد السابق ص217-233.

(12) علي خليفة الكواري (مفهوم الديمقراطية المعاصرة: المبادئ العامة المشتركة للدستور الديمقراطي).

(13) د.صادق الأسود مصدر سبق ذكرهٍ - ص257.

(14) د.علي عباس مراد - المصدر السابق - ص120.

(15) للمزيد من التفصيلات بصدد الموضوع قارن مع الشيخ راشد الغنوشي - مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام ملف على موقع الجزيرة على الانترنيت 19/8/2001 www.aljazeera.net .

عنوان التتبعات على الشبكة: http://scrs.friendsofdemocracy.net/utility/tb/?id=254864

ارتباط دائم: http://scrs.friendsofdemocracy.net/default.asp?item=254864